عن جلال شريم ابن حولا ومكتبته التي غدت رُكامًا



بقلم : الاعلامية سلوى فاضل ؛

ليس سهلًا على أيّ مؤلّف نسيان أوراقًا لطالما احتضنها، فكيف ستكون حال ابن بلدة حولا الجنوبيّة جلال شريم بعد أن فقد مكتبته الممتدّة على مساحة 400 مترٍ، وتقدّر قيمتها المادّيّة بأكثر من 500 ألف دولار أميركي؟ يضاف إليها منزله الجديد الذي أثّثه قُبيل الحرب، ولم تدُم فيه الطمأنينة التي أرادها؟

لم تترك طائرات الموت الإسرائيليّة شريم في حاله وبعيدًا من الاستهداف خلال الحرب الأخيرة، ومثلما دمّرت منزله في منطقة المريجة، أحرقت مكتبته إبّان إحدى الغارات، وردمتها تحت الأرض. هكذا، ذهب جنى العمر كلّه دفعةً واحدة، خصوصًا أنّ الحرب تزامنت مع العودة إلى المدارس، وهو ما يعرف بموسم القرطاسيّة والكتب المدرسيّة، فتكبّد خسارةً مادّيّةً مضاعفة.

لم يحزن شريم على المكان أو على حجارته، بل على فقدان مجموعة كتب فريدة ضمّتها المكتبة، فالتاريخ بالنسبة إليه ”هو الحاضر والجذور الواجب التمسّك بها“. يشعر جلال بالأسى على مقالاته التي تخطّى عددها الأربعين، وعلى كُتبه الأربعة التي خطّها بحبر التجربة والألم والأسر.

مكتبة النخبة

بنى شريم يدًا بيدٍ مع زوجته خديجة شومان، مكتبتهما ”النُخبة“ في منطقة الحدث قرب الجامعة اللبنانيّة في الضاحية الجنوبيّة، على مساحة طبقاتٍ ثلاث، فمثّلت ملاذًا للثقافة والفكر في المنطقة. وكما ربّيا ولديهما الاثنين بعرق جبينهما، أسّسا المكتبة بجهودهما الشخصيّة، وجمعا فيها كنوزًا من الكتب الغالية، لا سيّما التراثيّة والنادرة منها. لذلك، شكّلت المكتبة جزءًا من نضالهما الثقافيّ والسياسيّ، فرفض جلال بيع الكتب القيّمة التي تضُمّها، وتمثّل تاريخًا حيًّا.

لم يكن شريم عاشقًا للكتب التراثيّة فحسب، بل كان شغوفًا أيضًا بالكتب المدرسيّة والدينيّة والثقافيّة، إضافة إلى عالم القرطاسيّة، لذا ضمّت مكتبة ”النخبة“ حيّزًا من سلاسل معرفيّة، أبرزها ”عالم المعرفة“، و“وجهات نظر“ لمحمّد حسنين هيكل، ومجلّة ”الصفر“ العلميّة، ومجلّة ”العلوم الاجتماعيّة“ ومجلّة ”العربيّ“ الكويتيّة، وعشرات المجموعات والطوابع والعملات والمخطوطات، أبرزها مخطوطة مسيحيّة تعود إلى نحو مائتي عام، وكتاب ”ألف ليلة وليلة“، وغيرها كثير من الكتب.

جلال شريم ومعتقل الخيام

حلّ جلال شريم في مُعتقل الخيام تمامًا كوالدته المناضلة خديجة مزرعاني، إلّا أنّه خرج إلى الحرّيّة أقوى وإن خانته دموعه لحظة رآها أمامه. واجه التعذيب في المُعتقل بعينين لا تعرفان الانكسار وذاكرةٍ شاهدة على ألمه، وحمل قضيّته من خلف القضبان إلى صفحات التاريخ. حوّل معاناته إلى كلمات، فوثّق تجربته في فصول كتبه الأربعة التي ألّفها في سنٍّ مبكرة، وشكّلت ذاكرةً حيّةً تنبض بالوجع والصمود والتحدّي.

بنى شريم يدًا بيدٍ مع زوجته خديجة شومان، مكتبتهما ”النُخبة“ في منطقة الحدث قرب الجامعة اللبنانيّة في الضاحية الجنوبيّة، على مساحة طبقاتٍ ثلاث، فمثّلت ملاذًا للثقافة والفكر في المنطقة

لم يعرف التراجع يومًا، وبقي منخرطًا في معركته الثقافيّة في بلدته الجنوبيّة حولا التي تُجسّد معاني الصمود والتضحية. فمن منّا لم يسمع أو يقرأ عن المجزرة الدمويّة التي شهدتها هذه القرية في آخر تشرين الأوّل (أكتوبر) العام 1948 على يد العدوّ الإسرائيليّ، حين امتزجت الأرض بالدماء وظلّ التاريخ شاهدًا على ألمٍ وظلمٍ لا يُمّحيا؟

بعد تحرّره من الأسر، واصل جلال شريم كفاحه ومسيرته النضاليّة، من دون أن يرتبط أو ينتمي إلى أيّ حزبٍ سياسيّ، فحزبه الوحيد كان الأرض والوطن.

البحث عن ذاكرة في الركام

بعد مرور أكثر من 80 يومًا على انتهاء حرب ”الإبادة“، عاد جلال وزوجته رفيقته إلى الضاحية الجنوبيّة، للتأسيس من جديد. انطلقا في عمليّة بحثٍ بين الردم عن أيّ أجهزة كمبيوتر، أو كتب أو دفاتر أو قرطاسيّة، ليكتبا تاريخ ووحشية الاحتلال من جديد. فجلال لا يزال يأمل في إيجاد بعض مقالاته وكتبه تحت الأنقاض، خصوصًا أنّها ذاكرته بعدما تخصّص في العمل على ملفّات العملاء اللحديّين.

”لا شيء يعوّض الدم“

على الرغم من انتظاره التعويض كي يعيد التعمير، إلّا أنّه مؤمن بأنّ أيّ مبلغٍ ماليّ لن يساوي قيمة الدم الذي سقط، وعليه أن يدفع الثمن تمامًا كغيره من أبناء جبل عامل. وهو لا يستعجله حبًّا بالمال، بل عشقًا برائحة الكتب وشوقًا إليها، وإلى دم الأقلام الذي يسيل على الجدران والأسقف، وإلى غبار الرفوف الجميلة، وعبق الكلمات التي ملأت فضاء ”النخبة“.

حول

موقع طيور البارد الالكتروني مجموعة مهتمة بالشأن الفلسطيني تعنى برفع سوية المجتمع والعمل التطوعي. توسعت أنشطة عملها مع اللاجئين و المجتمع الفلسطيني في كل العالم لجمع الشتات